• المَلِكُ المُبْتَكِرُ

     عندما يكون الإنسان هو المحور الذي تدور حوله الفكرة، والفكرة تحرك جيشاً كاملاً بما آتاه الله من التمكين فيجوب الأرض يذرعها بالطول وبالعرض حتى ينتهي به المطاف إلى ابتكار فكرة جديدة تخلص العالم من قضية لطالما أرقت مضاجع الناس وأفسدت سكينة حياتهم وأقلقت أمان نفوسهم. وهكذا هي الأفكار تولّد بعضها بعضا حتى قيام الساعة.

    في هذه المدونة سنذهب في رحلة ولادة فكرة عبقرية خلدها القرآن العظيم بخلود ذكر الملك الصالح ذي القرنين-رحمه الله-. 

    وفق ما أشارت إليه دلالات الآيات الكريمات فـي سورة الكهف صقل ذو القرنين أربع صفات رئيسة قبل بدء مشروعه الرائد والكبير، وكلفه ذلك وقتاً وجهداً كبيراً. وهي كالتالي:-

    ١-التمكين 

    وهب الله ذا القرنين التمكين وخصّه بكل أسباب العلم والسلطان والقوة، وكل ذلك مكّنه ليطوف بالأرض حتى بلغ ﴿مَغرِبَ الشَّمسِ﴾ ثم من هناك تابع مسيره حتى بلغ ﴿مَطلِعَ الشَّمس﴾ والبلوغ هو أقصى ما يمكن الوصول إليه، والتمكين أيضاً مكنه كذلك من اكتساب باقي الصفات خلال مسيره ذاك.

    ٢-سعة الاطلاع واستيعاب الاختلافات

    خطف الملك الصالح خلال رحلاته المذكورة على تضاريس مختلفة والتقى بثقافات متنوعة، فالساكنون عند البحر، وفـي الأرض المنكشفة المنبسطة التي ليس فيها ما يحجب الشمس عن سكانها، اختلاف حتمي فـي الطبع ونمط الشخصية، بتأثير البيئات التي عاشوا فيها، فالإنسان ابن بيئته، وبذلك تعرّف ذو القرنين على أنماطٍ مختلفة من البشر، وتعرض للعديد من الظروف المناخية، والظواهر الكونية المتنوعة، والتضاريس الطبيعية، وما يختلج النفس البشرية من طباع وأهواء، فبين الغروب والشروق، والخير والشر، والظلم والعدل، والحاكم والمحكوم يكمن سر من أسرار الحياة، فبرغم الاختلاف تستمر الحياة وتتجدد، واستيعاب مفهوم هذا الاختلاف هو أساس للابتكار والإبداع. وهذه التجارب العملية مع الاختلاف تمهد لمواجهة اختلاف من نوع آخر مع قوم ما ﴿بَينَ السَّدَّينِ﴾

    ٣-العدل والتواضع

    عندما بلغ ذو القرنين مغرب الشمس سن قانونا قبل أن يعذب الظالمين بظلمهم ﴿قالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكرًا﴾ وعندما بلغ أقصى الشرق لم يمسس القوم الضعفاء بسوء وهم ليس لديهم حتى ما يقيهم من ضوء الشمس وهو القوي الممكن ذو العلم والسلطان. ولكنه عرف قدر نفسه المعلقة بالله سبحانه وهدفه الأسمى نحو أن تنعم البشرية بلطف الله ورحمته.

    ٤-الصبر والتــــــــؤدة

    إن الزمن الذي قضاه ذو القرنين فـي رحلته العالمية إلى أقصى الغرب ومن هناك إلى أقصى الشرق كفيل أيضا بأن يصقل فـي شخصيته قيمة الصبر على استظهار النتائج، والصبر على تحمل مشقة السفر، والصبر على متابعة الطريق، والصبر على مد يد العون وإحقاق العدل مع الأقوام قومٍ بعد قوم، وجماعة بعد جماعة.

    وبهذا يكتسب ذو القرنين قبل محطته الأخيرة التصور المعرفـي اللازم والتمرس العملي المطلوب قبل أن يتوج مشروعه العالمي بمواجهة التحدي الأخير في رحلته الخالدة هذه، والتي سيخوض فيها ذو القرنين ثلاث مستويات عملية للابتكار وهي :- 

    ١- المستوى الأول: تشخيص الـمـــــــشكلة.

    ٢-المستوى الثاني: إيجاد الحل المناسب. 

    ٣-المستوى الثالث: التنــــفيذ الــمستدام.

     ولنا أن نراقب الآن المستوى الأول من وحي الآيات الكريمات، ثم ننتقل للمستويات التي تليها بغية تتبع الطريقة القرآنية فـي الابتكار الممكن والمستدام:

    المستوى الأول: تشخيص المشكلة

    ١-اللغة المشتركة 

    لغة التواصل بين القوم والملك فـي بداية الأمر تكاد تكون معدومة ﴿حَتّى إِذا بَلَغَ بَينَ السَّدَّينِ وَجَدَ مِن دونِهِما قَومًا لا يَكادونَ يَفقَهونَ قَولًا﴾. فأول ما احتاجه ذو القرنين هواللغةالمشتركةلفهم أساس المشكلة، فليس من المعقول أن يقدم الحل دون تقديم فهم عميق للمسألة، واللغة المشتركة قد تكون مباشرة أو عبر وسيط ولو بالإشارة على أقل تقدير.

    ٢- فهم المشكلة عبر الحوار والاستماع

     وبعد أن صار هناك لغة تواصل بينهما تبين أن المشكلة الإنسانية التي نغصت حياتهم هي مشكلة انعدام الأمن ﴿قالوا يا ذَا القَرنَينِ إِنَّ يَأجوجَ وَمَأجوجَ مُفسِدونَ فِـي الأَرضِ﴾. وما كان لهم أن يصلوا إلى تشخيص هذه المشكلة لولا الحوار والاستماع فـ ﴿قالوا﴾ تعني أن هناك طرفًا يقول وطرفًا يستمع، طرفًا يسأل وطرفًا يجيب. 

    ٣-استعراض وجهات النظر

    لم ير ذو القرنين أن المال -بعد حوارهما- من وجهة نظر القوم حلا لهذه المشكلة، فلم يقبلها ﴿قالَ ما مَكَّنّي فيهِ رَبّي خَيرٌ﴾، فهو ليس بحاجة إلى مالهم، بينما فـي المقابل لم ير القوم أن التفاوض مع يأجوج و مأجوج أو القتال والحرب والمواجهة العسكرية حلٌّ ﴿ أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّا﴾ بدليل أنهم قطعوا الأمر من البداية باقتراح فكرة السد.

    وهكذا نرى أن كل طرف استمع إلى الآخر وفهم ما عنده ثم شُخِّصت المشكلة واقتُرحت الحلول الممكنة، كل من وجهة نظره الشخصية. فهم ذو القرنين أن المشكلة من نظر القوم هي ظلم يأجوج ومأجوج عليهم ولا يملكون سوى المال للخروج من مأزقهم ويطلبون المساعدة لبناء سد يحول بينهما. وهم فهموا أن ذا القرنين لا حاجة له بمالهم ولكنه سيساعدهم. إن هذا الفهم المشترك المتبادل سمح للمعالجة أن تنتقل الآن إلى المستوى الثاني وهو مستوى إيجاد الحل المناسب والذي استوحاه ذو القرنين من اقتراح القوم أنفسهم؛ لأنهم أكثر من يعرف بحال بلادهم، وأكثر من يدرك خطورة خصمهم، فكان الحل هو ((الردم)) الحل الرائد والفريد والمناسب الذي رآه هذا الملك الـمبتكر، ولنا كذلك أن نستعرض خطوات إيجاد الحل المناسب وهي ثلاث خطوات.

    المستوى الثاني: إيجاد الحل المناسب 

    ١-الـمشاركة

    بالرغم أن ذا القرنين لم يأخذ بفكرتهم تلك إلا أنه أخذ بشقها الثاني ﴿أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّا﴾. وجعل بذلك القوم طرفا فـي الحل. ولم يكتفِ بأن تكون المشاركة فـي الرأي فقط، بل استمر بهم فـي التنفيذ  ﴿فَأَعينوني بِقُوَّةٍ﴾. واستمرت المشاركة بين الملك والقوم حتى النهاية ﴿آتوني﴾ ﴿حَتّى إِذا ساوى ﴾،﴿انفُخوا﴾ ﴿حَتّى إِذا جَعَلَهُ﴾، ﴿قالَ آتوني﴾ ﴿أُفرِغ عَلَيهِ قِطرًا﴾.

    ٢- التطوير

    لقد كان الدور الأبرز لذي القرنين فـي هذا المستوى هو تطوير الحل المبدئي الذي لمحه من خلال الحوار إلى مشروع ضخم صرّح به لاحقا﴿فَأَعينوني بِقُوَّةٍ أَجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدمًا﴾. ففي بعض الأحايين لا يحتاج إعادة اختراع العجلة من جديد، بل تطوير أفكارٍ موجودة كفيل بالوصول إلى الحل الأمثل. فمن عايش المشكلة هو أكثر من يدرك الحل الأمثل لها حتى وإن بدت فـي البداية غير مكتملة، إلا أنها وبلا شك تحمل جزءًا كبيرًا من الواقع والنجاح.

    ٣-وزن الحل

     ﴿آتوني زُبَرَ الحَديدِ﴾،﴿ قالَ آتوني أُفرِغ عَلَيهِ قِطرًا﴾ لم يطلب ذو القرنين مستحيلاً من القوم. بل كان يعلم توفر هاتين المادتين فـي بيئتهم وأن لديهم الاستطاعة للعمل معه. لقد كان حل الردم صعبا، ولكن إذا ما وزناه بميزان الإمكان، نجده حلًّا ممكنًا رغم صعوبته، وإمكانيته بتوفر المادة الخام واليد العاملة.

    المستوى الثالث: التنفيذ المستدام

    ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظهَروهُ وَمَا استَطاعوا لَهُ نَقبًا﴾ لقد نفذ مشروع الردم أخيرا، فكان عصيا على يأجوج ومأجوج، قويا صلدا لا يمكن اختراقه، و أملسَ مرتفعًا لا يمكن تسلقه! ﴿ فَإِذا جاءَ وَعدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ﴾ ولن يستطيع أحد عليه حتى يأتي اليوم الذي سيدكه الله -سبحانه- دكا فيساوي به الأرض وينتهي. 

    إن تحقق الاستدامة فـي المنتج الأخير ضروري لنجاح الفكرة والهدف المرجو منها، خصوصا إذا ما كان محور المنتج هو الإنسان ومن أجل الإنسان ولمستقبل الإنسان! ﴿قالَ هذا رَحمَةٌ مِن رَبّي﴾. فبالابتكار تتجلى رحمة الله فـي الكون بل هو الرحمة بعينها التي لا زالت البشرية تنعم بها يوما بعد يوم، ولا زال الإنسان ينهل من معينها إلى أن يأتي وعد الله، وكانَ وَعدُهُ مَفعولًا.

  • السِّمَات السبعُ للشخصيَة الدُبلومَاسِيَة

    
    
    
    
    

     هناك مقولة معـــروفة للسفـــير البريطاني -السابق- فـــي واشنطن Sir Christopher Meyer أوجز عبرها بعض صفات الدبلوماسي المعاصر قال فيها: (( إن من صفات الدبلوماسي الفُضول النّهم عن الدول الأخرى، والقدرة على تحليل المعلومات، والإبلاغ عنها بدقة وبسرعة، بما في ذلك الأخبار التي لا ترغب حكومة دولته في سماعها ))، ولكن ما يلفت النظر أن القرآن الكريم تعرض إلى سمات الشخصية الدبلوماسية من خلال قصة الهدهد مع نبي الله سليمان -عليه السلام- والتي سنقف عندها متأملين أحداثها وما دار فيها من حوار بين الهدهد ونبي الله سليمان – عليه السلام – 

    ١-الانضباط

    ها هو الصمت يخيم على المكان، والرهبة جاثمة على صدور الإنس والطير والجان، والملك المبجل يتفقد حاشيته فردا فردا، ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ ! لا يُسمع حسٌ ولا همس إلا وقع نعله أو نقر عصاه، ولم يقشع قدسية هذه السكينة إلا سؤاله: ﴿مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ بدأ استنكارا حتى انتهى تهديدا ووعيدا ﴿لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ ثم ما لبث أنْ علا صوته بالنذير ﴿أَوْلأذْبَحَنَّهُ﴾ ﴿أَوْلَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ ارتعبت أربع أركان القصر من هول شدة سؤاله وغضبه، ولكن ما لبث أن بلغ الصدى مداه حتى عاد الهدهد ماثلا أمام الملك سليمان -عليه السلام-﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾،  لتبدأ قصة أبدية تؤصل سمات أصحاب السفارة ورسل السلاطين والملوك والرؤساء، وقد بدأت بسمة الانضباط التي هي اللبنة الأولى من لبنات بناء الشخصية الدبلوماسية، والتي لا يجب التهاون بها بأي حال من الأحوال، وهي التي تنعكس على الانضباط فـي السلوك والأخلاق، والـمواعيد، والأداء، والعواطف النفسية، والتحكم فـي الظروف والأحوال القاسية وغيرها من الأمور، وكأنما اكتساب هذه السمة هي المدخل الأول لما يليها من سمات الشخصية الدبلوماسية الناجحة.

    ٢-الـمبـادرة

    توالت المشاهد والأحداث، وأخذت الحوارات مجراها تجر بعضها بعضا، بعد أن بادر الهدهد بالحديث عن مبادرته؛ صانعا بذلك اهتماما جديدا لمملكته وأمته، ولم يجعل من عمله مجرد ساعي بريد أو ناقل أخبار كغيره لا يرتجى منه جديد أو فريد، فالسفير الحقيقي هو من يصنع عمله كما صنعه الهدهد، وقد تحمّل مشقة الطريق ووعثاء السفر واستثمر خبراته ومهاراته دون أن ينتظر توجيهًا من سليمان -عليه السلام- الذي تفاجأ بغيابه عن الـمجلس المعتاد، فقد جاءت مبادرة الهدهد ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين﴾ شفيعةً له لم ينل من ورائها عتاباً أو يمسه عذاباً، وهو إقرار بأهمية صنع المبادرات النافعة التي هي وقود العمل الدبلوماسي ونبضه الذي لا يتوقف.

    ٣-الإحـــاطة والــمصداقية

    لقد وضع الهدهد خبر مبادرته بين صفتين جوهريتين جديرتين بأن تكونا مبادئ وضوابط تنيران دورب أصحاب السفارة والعمل الدبلوماسي، فجاء نبأ سبأ بين صفتي الإحاطة واليقين، ولنا أن نتسائل عن قيمة وثمرة العمل الدبلوماسي إن لم يصاحبه إحاطة بأحوال البلد ودقائق تفاصيله وحقائق ساكنيه وطرائق عيشهم وسياسة أمرهم، إلا أن هذا لا يكفي إن لم يكن اليقين ختمَ كلِّ خبرِ يُرسل أو نبأ يُنقل، فلا يحتمل الشك ولا الريبة فـي هذا الموضع الذي سيحدد موقف المتلقي لأمر المنقول عنه، ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾،﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ أكد الهدهد بذلك أن خبره لا يقبل حتى الشك؛ لأنه أحاط بالأمر بداية وتيقن منه أخرا. مستحضرا بذلك الموقف المهيب والتحدي القادم لنقل هذا الخبر الجسيم عند مثوله أمام نبي الله سليمان -عليه السلام-

    ٤-الفضول النهم والسرعة

    وما النبأ الذي يحمله هذا الهدهد ليكون سلطانًا مبينًا يشفع له عند الملك حتى يتوقى وعيده وعذابه؟ إنه نبأ جديد لا يعرفه حتى سليمان -عليه السلام- من قبل ﴿بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ بل سبق إعلامي مهم لمستقبل الدولة والأمة، ولم يكن هذا السبق يراد به التملق والتزلف أمام السيد أو الملك، بل كان خبرا مزعجًا يحمل من الأضداد كل شيء ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ وهو يخاطب ملِكًا رجلًا، ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ وسليمان ملك على الإنس والجن والطير، ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾  لما تملكه دولتها من تفوق فـي الصنعة والعلم، ولم يرَ الهدهد عرشا مثله من قبل! ﴿وجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾  وسليمان نبي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذه القضية هي أشد عليه من غيرها!! وهنا تتحقق سمة الفضول النهم التي جعلت من الهدهد ينجذب تركيزه لكل ما يثير فضوله حتى يكون مادة فريدة لسبقه الإعلامي.

    ٥- الاحتراف فـي النقل

    ورغم أهمية الحدث والخبر إلا أن الهدهد أوجز فـي خطابه ما رآه بأم عينيه، وأحاط به فـي كلمات قصيرة موجزة. بدأ بمقدمة استهلالية جذابة، ركز فيها إلى ما يلفت الأنظار ويصغي الأسماع نحو الخبر المهم الذي سيتلوه بعد حين ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ثم عقب بعد ذلك الإجمال تفاصيل الخبر الآتي: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ ثم تابع خطابه بتحليله لمشكلة هؤلاء القوم، والحال الذي وصلوا له، مستثمرا دقة ملاحظته وبعد نظره ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ وقد اختار أن يكون رأيه فيهم نابعاً من تخصصه الهندسي وخلفيته الثقافية وعمله الرئيس فـي الكشف عن مواضع الماء فـي جوف الأرض ﴿أَلَّا يَسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِى السّمَوَت وَٱلْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ ثم أنهى خطابه بترابط فني بين المقدمة والخاتمة التي أكد فيها على وحدانية الله تعالى ﴿ٱللَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ﴾ وردّ المُلك والربوبية له وحده سبحانه ﴿رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ﴾ إلا أن الهدهد فـي خطابه هذا لم يقترح ما يجب فعله تجاه قوم سبأ، وإنما ترك الأمر إلى أهل الشأن والبصيرة، وتقدير الملك وتوجيهه.

    ٦- الثبات الانفعالي

    لم يمضِ وقت طويل حتى أتى هذا الهدهد المسكين بسلطان مبين، وقد ألقى خطابه أمام الملك وحاشيته، وبث خلاله الخبر اليقين الذي لا يقبل الشك أو الخطأ، ولم يتبق حينها إلا أن يعلن الملك أمام الملأ عن عفوه للهدهد أو ثنائه له أو يظهر ردة فعله تجاه هؤلاء القوم الذين يعبدون الشمس من دون الله  ولكن الجواب الفوري كان ﴿سَنَنظُرُ! أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ؟! ﴾ وعلى المرء هنا أن يتخيل حجم الثبات الانفعالي والاستقرار العاطفي الذي سكن هذا السفير حتى يطالَبَ من الملك بالحجة والبرهان مرة أخرى فقط ليثبت صدق خطابه وسر غيابه المفاجئ! ولم يستثن سليمان -عليه السلام- سفيره من هذا الاختبار رغم معرفته الجيدة لشخص الهدهد وقربه منه، بل حمّله مهمة إثبات صدقه ليزيده بذلك شرفا ورفعة، ولم يكن ذلك انتقاصا وذلة وإلا لأمر  سليمان -عليه السلام – غيره ليذهب ويتأكد من صدق نبأ الهدهد. ونظرا لاستقرار الهدهد النفسي لم يغضب لسؤال سليمان ولم يعارض ما ذهب إليه أبدا بل انتظر الخطوة القادمة بكل صبر وأناة.

    ٧- التنفيذ المطلق للتوجيهات

    من الملاحظ أن الأحداث قد بدأت بمبادرة الهدهد الذاتية، إلا أنها انتهت الآن بتنفيذ توجيهات الملك بشكل مطلق لا يقبل المناقشة ولا يحتمل الآراء والأهواء الشخصية فـي تنفيذها ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾، ﴿فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ﴾، ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾، ﴿فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، توجيهات واضحة ودقيقة من أربع خطوات محددة، لم يكن للسفير حينها إلا السمع والطاعة والتنفيذ ولم يناقش الهدهدُ الملكَ فـي أمر أمنه الشخصي ولم يتعجل بسرد مزيد من الإثباتات التي تؤيد ما جاء به، أو اقتراح طرق أخرى لايصال الكتاب، ولم يحمله الفضول ليرى من سيتلقى كتاب سليمان، وإنما تولى عنهم مسرعا كما أمر! إنه التنفيذ المطلق لتوجيهات الحكومة، فلا مجال للدبلوماسي الفطن فـي التنصل من نقل مواقف قيادته حتى وإن كان ذلك فيه مخاطرة لشخصه أو ما قد يكون فيه مشقة أو عناءً! بل عليه أن يكون كالهدهد واثقا من سلامة رأي من يملكون دفة القيادة وزمام المسؤولية.

    وهكذا رسمت هذه القصة صورة لسمات الشخصية الدبلوماسية التي يجب أن يتمتع بها الدبلوماسي بدءًا من الانضباط إلى التنفيذ المطلق مرورا بالمبادرة، والإحاطة، والمصداقية ، ثم الفضول النهم والسرعة، والاحتراف في النقل مع الثبات الانفعالي والبعد عن العواطف الهوجاء التي قد تؤثر على جزء من الحقيقة الدامغة، أو على الآراء التي تتطلب منطقا وعقلانية وسلوكاً وتعاملا مع الآخرين.

  • وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ

    وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ

    المدونة الأولى مع التحية،،

    أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في المدونة الأولى في هذه الصفحة البيضاء لمشروع لم تظهر بعد معالم كيانه ولا مقصده وشأنه،ولكنه قائم على يقين أثبتته الأيام والسنون بأن “الجمال” رحمة ربانية أينما وقع نفع، فكان مكان وقعه محط الأنظار، ومهبط الأفكار، ومورد الظمآن، ومنبت كل مبارك مزدان.

    ولهذا آمل من الله أن يكون لكم في هذا المشروع جمال آسر -ولو بعد حين-، وأن يعم بنفعه الارجاء والانحاء.و أن يعينني بالصبر على درك مواطن التوفيق في هذا المسلك الشاق، وأن يدفعني للعلم بضعفي وقلة حيلتي وفقري إلى الله .

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،