عندما يكون الإنسان هو المحور الذي تدور حوله الفكرة، والفكرة تحرك جيشاً كاملاً بما آتاه الله من التمكين فيجوب الأرض يذرعها بالطول وبالعرض حتى ينتهي به المطاف إلى ابتكار فكرة جديدة تخلص العالم من قضية لطالما أرقت مضاجع الناس وأفسدت سكينة حياتهم وأقلقت أمان نفوسهم. وهكذا هي الأفكار تولّد بعضها بعضا حتى قيام الساعة.
في هذه المدونة سنذهب في رحلة ولادة فكرة عبقرية خلدها القرآن العظيم بخلود ذكر الملك الصالح ذي القرنين-رحمه الله-.
وفق ما أشارت إليه دلالات الآيات الكريمات فـي سورة الكهف صقل ذو القرنين أربع صفات رئيسة قبل بدء مشروعه الرائد والكبير، وكلفه ذلك وقتاً وجهداً كبيراً. وهي كالتالي:-
١-التمكين
وهب الله ذا القرنين التمكين وخصّه بكل أسباب العلم والسلطان والقوة، وكل ذلك مكّنه ليطوف بالأرض حتى بلغ ﴿مَغرِبَ الشَّمسِ﴾ ثم من هناك تابع مسيره حتى بلغ ﴿مَطلِعَ الشَّمس﴾ والبلوغ هو أقصى ما يمكن الوصول إليه، والتمكين أيضاً مكنه كذلك من اكتساب باقي الصفات خلال مسيره ذاك.
٢-سعة الاطلاع واستيعاب الاختلافات
خطف الملك الصالح خلال رحلاته المذكورة على تضاريس مختلفة والتقى بثقافات متنوعة، فالساكنون عند البحر، وفـي الأرض المنكشفة المنبسطة التي ليس فيها ما يحجب الشمس عن سكانها، اختلاف حتمي فـي الطبع ونمط الشخصية، بتأثير البيئات التي عاشوا فيها، فالإنسان ابن بيئته، وبذلك تعرّف ذو القرنين على أنماطٍ مختلفة من البشر، وتعرض للعديد من الظروف المناخية، والظواهر الكونية المتنوعة، والتضاريس الطبيعية، وما يختلج النفس البشرية من طباع وأهواء، فبين الغروب والشروق، والخير والشر، والظلم والعدل، والحاكم والمحكوم يكمن سر من أسرار الحياة، فبرغم الاختلاف تستمر الحياة وتتجدد، واستيعاب مفهوم هذا الاختلاف هو أساس للابتكار والإبداع. وهذه التجارب العملية مع الاختلاف تمهد لمواجهة اختلاف من نوع آخر مع قوم ما ﴿بَينَ السَّدَّينِ﴾
٣-العدل والتواضع
عندما بلغ ذو القرنين مغرب الشمس سن قانونا قبل أن يعذب الظالمين بظلمهم ﴿قالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكرًا﴾ وعندما بلغ أقصى الشرق لم يمسس القوم الضعفاء بسوء وهم ليس لديهم حتى ما يقيهم من ضوء الشمس وهو القوي الممكن ذو العلم والسلطان. ولكنه عرف قدر نفسه المعلقة بالله سبحانه وهدفه الأسمى نحو أن تنعم البشرية بلطف الله ورحمته.
٤-الصبر والتــــــــؤدة
إن الزمن الذي قضاه ذو القرنين فـي رحلته العالمية إلى أقصى الغرب ومن هناك إلى أقصى الشرق كفيل أيضا بأن يصقل فـي شخصيته قيمة الصبر على استظهار النتائج، والصبر على تحمل مشقة السفر، والصبر على متابعة الطريق، والصبر على مد يد العون وإحقاق العدل مع الأقوام قومٍ بعد قوم، وجماعة بعد جماعة.
وبهذا يكتسب ذو القرنين قبل محطته الأخيرة التصور المعرفـي اللازم والتمرس العملي المطلوب قبل أن يتوج مشروعه العالمي بمواجهة التحدي الأخير في رحلته الخالدة هذه، والتي سيخوض فيها ذو القرنين ثلاث مستويات عملية للابتكار وهي :-
١- المستوى الأول: تشخيص الـمـــــــشكلة.
٢-المستوى الثاني: إيجاد الحل المناسب.
٣-المستوى الثالث: التنــــفيذ الــمستدام.
ولنا أن نراقب الآن المستوى الأول من وحي الآيات الكريمات، ثم ننتقل للمستويات التي تليها بغية تتبع الطريقة القرآنية فـي الابتكار الممكن والمستدام:
المستوى الأول: تشخيص المشكلة
١-اللغة المشتركة
لغة التواصل بين القوم والملك فـي بداية الأمر تكاد تكون معدومة ﴿حَتّى إِذا بَلَغَ بَينَ السَّدَّينِ وَجَدَ مِن دونِهِما قَومًا لا يَكادونَ يَفقَهونَ قَولًا﴾. فأول ما احتاجه ذو القرنين هواللغةالمشتركةلفهم أساس المشكلة، فليس من المعقول أن يقدم الحل دون تقديم فهم عميق للمسألة، واللغة المشتركة قد تكون مباشرة أو عبر وسيط ولو بالإشارة على أقل تقدير.
٢- فهم المشكلة عبر الحوار والاستماع
وبعد أن صار هناك لغة تواصل بينهما تبين أن المشكلة الإنسانية التي نغصت حياتهم هي مشكلة انعدام الأمن ﴿قالوا يا ذَا القَرنَينِ إِنَّ يَأجوجَ وَمَأجوجَ مُفسِدونَ فِـي الأَرضِ﴾. وما كان لهم أن يصلوا إلى تشخيص هذه المشكلة لولا الحوار والاستماع فـ ﴿قالوا﴾ تعني أن هناك طرفًا يقول وطرفًا يستمع، طرفًا يسأل وطرفًا يجيب.
٣-استعراض وجهات النظر
لم ير ذو القرنين أن المال -بعد حوارهما- من وجهة نظر القوم حلا لهذه المشكلة، فلم يقبلها ﴿قالَ ما مَكَّنّي فيهِ رَبّي خَيرٌ﴾، فهو ليس بحاجة إلى مالهم، بينما فـي المقابل لم ير القوم أن التفاوض مع يأجوج و مأجوج أو القتال والحرب والمواجهة العسكرية حلٌّ ﴿ أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّا﴾ بدليل أنهم قطعوا الأمر من البداية باقتراح فكرة السد.
وهكذا نرى أن كل طرف استمع إلى الآخر وفهم ما عنده ثم شُخِّصت المشكلة واقتُرحت الحلول الممكنة، كل من وجهة نظره الشخصية. فهم ذو القرنين أن المشكلة من نظر القوم هي ظلم يأجوج ومأجوج عليهم ولا يملكون سوى المال للخروج من مأزقهم ويطلبون المساعدة لبناء سد يحول بينهما. وهم فهموا أن ذا القرنين لا حاجة له بمالهم ولكنه سيساعدهم. إن هذا الفهم المشترك المتبادل سمح للمعالجة أن تنتقل الآن إلى المستوى الثاني وهو مستوى إيجاد الحل المناسب والذي استوحاه ذو القرنين من اقتراح القوم أنفسهم؛ لأنهم أكثر من يعرف بحال بلادهم، وأكثر من يدرك خطورة خصمهم، فكان الحل هو ((الردم)) الحل الرائد والفريد والمناسب الذي رآه هذا الملك الـمبتكر، ولنا كذلك أن نستعرض خطوات إيجاد الحل المناسب وهي ثلاث خطوات.
المستوى الثاني: إيجاد الحل المناسب
١-الـمشاركة
بالرغم أن ذا القرنين لم يأخذ بفكرتهم تلك إلا أنه أخذ بشقها الثاني ﴿أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّا﴾. وجعل بذلك القوم طرفا فـي الحل. ولم يكتفِ بأن تكون المشاركة فـي الرأي فقط، بل استمر بهم فـي التنفيذ ﴿فَأَعينوني بِقُوَّةٍ﴾. واستمرت المشاركة بين الملك والقوم حتى النهاية ﴿آتوني﴾ ﴿حَتّى إِذا ساوى ﴾،﴿انفُخوا﴾ ﴿حَتّى إِذا جَعَلَهُ﴾، ﴿قالَ آتوني﴾ ﴿أُفرِغ عَلَيهِ قِطرًا﴾.
٢- التطوير
لقد كان الدور الأبرز لذي القرنين فـي هذا المستوى هو تطوير الحل المبدئي الذي لمحه من خلال الحوار إلى مشروع ضخم صرّح به لاحقا﴿فَأَعينوني بِقُوَّةٍ أَجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدمًا﴾. ففي بعض الأحايين لا يحتاج إعادة اختراع العجلة من جديد، بل تطوير أفكارٍ موجودة كفيل بالوصول إلى الحل الأمثل. فمن عايش المشكلة هو أكثر من يدرك الحل الأمثل لها حتى وإن بدت فـي البداية غير مكتملة، إلا أنها وبلا شك تحمل جزءًا كبيرًا من الواقع والنجاح.
٣-وزن الحل
﴿آتوني زُبَرَ الحَديدِ﴾،﴿ قالَ آتوني أُفرِغ عَلَيهِ قِطرًا﴾ لم يطلب ذو القرنين مستحيلاً من القوم. بل كان يعلم توفر هاتين المادتين فـي بيئتهم وأن لديهم الاستطاعة للعمل معه. لقد كان حل الردم صعبا، ولكن إذا ما وزناه بميزان الإمكان، نجده حلًّا ممكنًا رغم صعوبته، وإمكانيته بتوفر المادة الخام واليد العاملة.
المستوى الثالث: التنفيذ المستدام
﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظهَروهُ وَمَا استَطاعوا لَهُ نَقبًا﴾ لقد نفذ مشروع الردم أخيرا، فكان عصيا على يأجوج ومأجوج، قويا صلدا لا يمكن اختراقه، و أملسَ مرتفعًا لا يمكن تسلقه! ﴿ فَإِذا جاءَ وَعدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ﴾ ولن يستطيع أحد عليه حتى يأتي اليوم الذي سيدكه الله -سبحانه- دكا فيساوي به الأرض وينتهي.
إن تحقق الاستدامة فـي المنتج الأخير ضروري لنجاح الفكرة والهدف المرجو منها، خصوصا إذا ما كان محور المنتج هو الإنسان ومن أجل الإنسان ولمستقبل الإنسان! ﴿قالَ هذا رَحمَةٌ مِن رَبّي﴾. فبالابتكار تتجلى رحمة الله فـي الكون بل هو الرحمة بعينها التي لا زالت البشرية تنعم بها يوما بعد يوم، ولا زال الإنسان ينهل من معينها إلى أن يأتي وعد الله، وكانَ وَعدُهُ مَفعولًا.